دعت الجمعية الشرعية من خلال التبيان لسان حالها، أكثر من مرة خلال الأنظمة السابقة إلى وحدة الدعاة التى من خلالها تكون وحدة الأمة، فقد كانت إفتتاحية عددها فى شهر رمضان1427هـ الموافق أكتوبر2006م، -هل من سبيل إلى وحدة الدعاة؟- وكانت دعوة إلى الدعاة لإخلاص النية وصدق التوجه وبذل أقصى الجهد لبلوغ هدف توحيد الأمة، ونبذ التعصب والخلاف فى المسائل الغيبية والفرعية وكانت بقلم: أ. د. محمد المختار المهدى الرئيس العام للجمعيات الشرعية وعضو هيئة كبار علماء الأزهر وتكررت الدعوة فى جمادى الآخرة 1432ه الموافق مايو2011 م من خلال غفتتاحية العدد بعنوان -ميثاق شرف للدعاة-وقد نشر مضمون ما جاء فيها فى أفتتاحية هذا العدد وها نحن ننقل ما كتبه الإمام منذ ثمانية أعوام بعنوان..
= هل من سبيل إلى وحدة الدعاة؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد..
فإن ما نعانيه فى عالمنا الإسلامى من التشرذم والخلاف والتعصب المذهبى وتقديس بعض الآراء وبذل الجهد المضنى فى تسفيه آراء الآخرين.. قد إنتقل بكل أسف إلى العالم العربى فنسيت فريضة التعاون على البر والتقوى، وجهلت إشارة القرآن الكريم للدعاة أن يكونوا أمة، وليس هناك أمة لا تتحد وسائلها وأهدافها قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَن الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُم الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
وكأنى بالقرآن يقول: وما لم تتضافر جهود المسلمين على تكوين هذه الأمة المتعاونة على الدعوة إلى الخير فلن يكونوا من المفلحين.. إن معظم الخلافات القائمة بين الجماعات تتركز فى أربع نقاط:
• النقطة الأولى/ كيف نفهم العقيدة الصحيحة:
ويسر الجمعية الشرعية بشعارها فى تعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية أن تقدم رؤيتها النابعة من المصدرين الأساسيين المسترشدة بمناهج أئمة أهل السنة حول هذه النقاط الأربع دون أن تكون طرفا فى هذا الخلاف.
فأما فهم العقيدة الصحيحة فينبغى أن يقوم على منهج القرآن الكريم فى التناول وبقليل من التأمل نرى أسلوب القرآن يركز على:
1= لفت نظر الإنسان إلى ما فى هذا الكون من آيات وإبداع يصل منها العقل البشرى إلى قدرة الله وحكمته وعنايته بهذا المخلوق الذى سخر له كل ما فى السموات والأرض.
2= التذكير بنعم الله وآلائه التى لا تُعد ولا تحصى.
3= التحذير من الإنحراف عن منهج الله ففيه الضنك والهلاك.
التأكيد على أن هناك عالما للغيب لا يدركه إلا رب العزة سبحانه {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون} [النمل:65] وبذلك يكون مجال التفكير العقلى منحصرا فى فهم الوحى وفى عالم الشهادة مثل جميع الحواس البشرية لها نطاق محدود، بل إن العقل مازال عاجزا عن إدراك عالم الشهادة بأسراره العجيبة التى تتكشف يوما بعد آخر.. وصدق الله العظيم الذى يخاطب عباده {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: 85]، ويخاطب نبيه: {وقل رب زدنى علما} [طه:144].
وإذن فما دام عالم الأشياء هو المتاح للمعرفة البشرية والعقل عاجز عن الإحاطة بهذا العالم فكيف نطمح إلى معرفة عالم الغيب بلا وحى صحيح؟ إن معظم الفلاسفة الذين أقحموا العقل فيما وراء الطبيعة قد ضلوا وأضلوا، وإذا كان الله عز وجل ليس كمثله شىء فلماذا يقحم العقل نفسه فيما لا يستطيع إدراكه يقول سبحانه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرٍ} [الأنعام:103].
فأى حديث عن محاولة إدراك ذات الله إهدار لطاقة العقل وبدعة فى الدين رفضها أئمة السلف رضوان الله عليهم وكانت كلمات الإمام مالك حاسمة فى هذا المجال، حينما سأله شاب: كيف إستوى ربنا على العرش فحكم على هذا السؤال بأنه بدعة فى الدين، لم تحدث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على عهد الصحابة ولا التابعين وحكم على الشاب بأنه ضال مضل وطرده من مجلسه.. السؤال إذن بكيف وأين ومتى ولماذا المتعلق بالمتشابهات وما وراء الطبيعة هذا الذى يسرى بين بعض الشباب ويكفِّر بعضهم بعضا بسببه ليس من الدين فى شىء وليس من منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم..فالقرآن صريح فى إجابته عن ذات الله بأنه ليس كمثله شىء وعن صفات الله بأنه الرحمن الرحيم له الأسماء الحسنى وصفاته العليا.
فلماذا إذن نحاول أن نجعل هذه النقطة مجالا للخلاف ويدعى بعضنا أننا ما لم نفهم المتشابهات كنا زائغى العقيدة مع أن الله عز وجل يقول عكس ذلك: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَاب} [آل عمران:7].
وإذا كان للخلَف كلام فى هذا فقد إستدعته ظروف تاريخية إقتضت منهم للدفاع عن شبه المنحرفين بالا يخرج عن دلالات العربية التى نزل بها الوحى فلماذا نتعرض أساسا إلى فرق المشبهة والمعطلة والمؤولة والمعتزلة وإلى فتنة خلق القرآن والشيعة والخوارج.. مع أن معنا كتاب الله وهو محفوظ بحفظه إلى يوم الدين؟!
• النقطة الثانية/ كيف نبدأ مناهج الإصلاح:
فقد حسمها إمامنا المؤسس الشيخ محمود خطاب السبكى بإختياره لمنهج النبى صلى الله عليه وسلم فى تربية النشء على ما رسمه الوحى أى أن الإصلاح لابد أن يبدأ من القاعدة بتنشئة الجيل على الإيمان بالله وحفظ كتاب الله والتخلق بسلوكيات رسول الله وحمايته من مغريات الشيطان، والإقبال على طاعة الرحمن، وتحصيل أسباب القوة الروحية والعلمية والإقتصادية والعسكرية.. حتى إذا شاع هذا فى الأمة عادت من نفسها إلى دين ربها فى كل تصرفاتها بعد أن تكون قد فهمته فهما صحيحا.
• النقطة الثالثة/ كيف نفهم الأحكام الشرعية:
منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها واضح فى أن النص إذا إحتمل أكثر من وجه فكلا الوجهين صحيح وحديثه فى غزوة بنى قريظة شاهد لا يقبل الجدل فحين قال لهم:«لا يصلين أحدكم العصر إلا فى بنى قريظة» فهمه بعض الصحابة على الحقيقة فإمتنع عن صلاة العصر قبل أن يصل إلى بنى قريظة بالرغم من حينونة وقتها، وفهمه البعض الآخر على المجاز على أساس أن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتا وأن النبى صلى الله عليه وسلم أراد الإسراع فصلى العصر فى الطريق وأقر النبى صلى الله عليه وسلم كلا على ما فهم وعلى ما عمل، فكان هذا أصلا لدى الأئمة الأربعة وكان الخلاف بينهم فى فهم النص فكل إمام له مسند يعتمد عليه فى بيان الحكم.. وليس فى ذلك غضاضة ولا ينهض سببا للفرقة والخلاف فكلهم من رسول الله ملتمس كما إشتهر لدى العامة والخاصة.
• النقطة الرابعة/ ما موقع التصوف من طرق الإصلاح:
فإن التصوف الحقيقى لا يعترض عليه أحد إذ هو التقوى بمفهومها الشرعى وهو إستحضار مراقبة الله عز وجل والتقرب إليه بالعبادات المختلفة والتى منها: النفع العام، والقيام بالليل والناس نيام، وتلاوة القرآن، والزهد فيما عند الناس، وتحرى الحلال، والبعد عن الشبهات، والسعى فى مصالح الناس، ودوام الذكر لله بمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205].
وقد سمى الله هؤلاء المتقين بأولياء الله ووعدهم بالبشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة وبين هذه البشرى بقوله سبحانه ِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراًٍ} [الطلاق:3-2]، نحن إذن محتاجون إلى هذا المنهج فى التربية الروحية بشرط خلو هذا المنهج من البدع والخرافات والإرتزاق الذى ينكره أهل التصوف أنفسهم...إذن فما أساس الخلاف؟
إنها دعوة صادقة تنبعث من الجمعية الشرعية إلى كل الرفقاء والفرقاء أن نصطلح مع أنفسنا ومع ربنا وأن نقدم الإسلام إلى أهلنا وإلى غيرنا بثوابته وبنصوصه القطعية فى الثبوت والدلالة فليس هناك مجال للترف العقلى أو للخلاف الفقهى فى هذه الظروف القاسية التى يمر بها الإسلام بين أعدائه فى الداخل والخارج ورحم الله الإمام محمد رشيد رضا حين قال: دعونا نتعاون فيما إتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما إختلفنا فيه...
نسأل الله للدعاة إليه إخلاص النية وصدق التوجه وبذل أقصى الجهد وبلوغ الهدف فلا توفيق إلا منه ولا هداية إلا بفضله إنه نعم المولى ونعم النصير.
المصدر موقع الجمعية الشرعية الرئيسية.